الأحد، 14 يناير 2018

عِظم التنافر بين النبي الصادق والمتنبئ الكذاب .

  • الكاتب
    المُهَنَّد
  • تاريخ النشر
    يناير 14, 2018
  • الأقسام


كثيراً ما يردّد العلماء أن مدعي النبوة إما أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين  - أي أن كل ما يخطر في بالك من الصادقين فإن النبي الصادق أصدقهم،  وكل ما يخطر في بالك من الكذابين فإن المتنبئ الكذاب أكذبهم - ، وهذا يقتضي عِظم التنافر والفرق  بينهما؛ حيث الأول في أعلى ما قد يتصوره الإنسان من الصدق ، والآخر في أسفل دركات الكذب ، ومن التبس عليه حالهما حريٌ به أن يلتبس عليه صدق أو كذب من دونهما ! 

 أود في هذه المقالة السريعة تسليط الضوء على (بعض) ما يكشف عن ذلك - أعنى: عِظمِ التنافر بينهما –  فأقول :

أولاً / عِظم الدعوى :
 دعوى النبوة من أعظمِ الدعاوى على الإطلاق  ؛ فقول الشخص: أنا رئيس الدولة الفلانية أو أنا أملك قوةً خارقة أستطيع من خلالها الطيران في السماء أهون من أن يقول لك : خالق السماوات والأرض وما بينهما أرسلني إليك  ، فلئن كان من البديهي ألّا يسلّم الإنسان بما هو أهون من دعوى النبوة إلا بدليل ، فالتحقق من صدق النبوة أشد وأولى، هذا من جهة طلب الدليل ، أما من  جهة إدراك الترابط بين الدليل والمدلول فهو ميسورٌ للكل مُدْرَكٌ لجميع أطياف المجتمع كما يُدْرِك الناس عدم الترابط بين الاستدلال بالقدرة على المشي لإثبات القدرة على الطيران  !  ، وإدراك عدم الترابط أيضاً بين دعوى النبوة والسّحر ؛ إذ السحر مما يقدر عليه البشر وكثير منهم لم يدّع النبوة ، ولئن خفي عليهم عدم الترابط في أول الأمر فلا بد من ظهوره مع الأيام . 

ثانياً / ضرورة الشرع :
 النبوة تتضمن أخبارًا وأوامراً - ولولا ذلك لم يكن لادّعاء النبوة معنى - والكذب في ادِّعائها يُفضي إلى الكذب في أمورٍ كثيرةٍ ؛ حيث ما يسنده إلى الربِّ تعالى غالبه - إن لم يكن كله - كذب ، ومن كَذَب على الخالق تعالى وتجرأ على ذلك هان عليه الكذب في أموره كلها. 

ثالثاً / ضرورة التميز :
  ما يُخبر به النبي ويأمر به غيرَه  لا بد وأن يكون مما لا يقدر على إدراكه البشر ؛ إذ لو كان الذي جاء به مدركاً عند غيره لم يتحقق معنى الاصطفاء الذي هو لبُّ النبوة ؛ فيكون حاله كمن يخبر غيره أن للإنسان رأس ولسان يتحدّث به ، أو يخبر عن شيء مما يُتوصل إليه بالعقل والتجربة  وبالتالي اشتراك غيره معه فينتفي اختصاصه بما زعم أنه اختص به !

رابعاً  ضرورة الدليل :
لا يعني مما سبق أن الحديث عما لا تدركه عقول الناس كافٍ في ادّعائها ؛ إذ الكل بإمكانه أن يُطلق العنان لخياله وما يجوِّزه ذهنه ثم يدعو غيره إليه ؛ وحيث كان الأمرُ كذلك فلا بد وأن يكون مع النبي الصادق ما يدل على صدقه ؛ ليتميز به عمن يتكلّم في أمر الغيب بلا سلطان. 
ومن جوّز على الله تعالى أن يُسوِّي في الدنيا بين النبي الصادق والمتنبئ الكذاب ، لزمه نسبةُ النقص إليه سبحانه وتعالى ؛ إذ  التسوية بينهما تؤول إلى عدم إقامة الحجة على جنس الأخيار والأشرار، هذا من جهة حكمته، أما من جهة عدله سبحانه فإنه لا يسوّي بين النبي الصادق والمتنبئ الكذاب في الدنيا ، ولا يساوي بين من صدّق رسله وأعرض عنهم  في المآل الأخروي ، فأما من جهة الدنيا فإن النبي – كما سبق بيانه - يأتي بجملةٍ من العلوم والأعمال اصطفاه الخالق بها ليبلغها خلْقه ، وهي لا بد وأن تتعارض مع ما يدعو إليه المتنبئ الكذاب ، من جهة مضمون ما يدعون إليه ومن جهة القصد والدافع لادّعاء النبوة ؛ فإن النبي الصادق لا بد وأن يأتي بما لا تدركه عقول البشر ، والكاذب بشر ، والدافع لادّعائها هو امتثال أمر ربّه لا غير ذلك ، فلا يظهر – على تقدير عدم الدليل - صدق الصادق وكذب الكاذب في ادّعاء النبوة ، وهذا أثقل ما يكون على الصادق ؛ إذ علمه بصدق خبره دون القدرة على إثبات ذلك لغيره يقتضي تسويته - في حكم الناس - مع من يقول (بضد) قوله ، فلا هو الذي استراح من هم التبليغ ولا هو الذي أُعطي ما يُثبت صدقه  ! 
وأما من جهة المصدّقين والمكذبين  فمعلومٌ أن الخالق سبحانه وتعالى لا يساوي بين الأخيار والأشرار ، والأبرار والفجّار ، لكون ذلك من الظلم الذي حكم العقل بانتفائه عنه ضرورةً ، وحينئذٍ لو قُدّر اثنان : أحدهما صدّق رسل الله واتّبع ما جاءوا به والآخر كذّبهم وأعرض كبراً وعتواً لكان الأول من الأخيار والآخر من الفجّار – ومعلومٌ أن معرفة الإنسان للخير لا تستلزم بالضرورة اتّباعه ، ومعرفته للشر لا تستلزم اجتنابه  - ولكي يتميز الأول عن الثاني في المآل لا بد من تمييز النبي الصادق بما يقيم به الحجّة على الناس ، ويُخضع طالب الحق .

يقول شيخ الإسلام : 
« إذا كان قادراً – أي : الله تبارك وتعالى – على أن يهدي الإنسان الذي كان علقةً ، ومضغةً إلى أنواع العلوم بأنواعٍ من الطرقِ إنعاماً عليه ، وفي ذلك من بيان قدرته وحكمته  ورحمته  مافيه  ، فكيف لا يقدر أن يعرفه صدق من أرسله إليه ؟! وهذا أعظم النعم عليه ، والإحسان إليه ، والتعريف بهذا دون تعريف الإنسان ما عرفه به من أنواع العلوم ؛ فإنه إذا كان هداهم إلى أن يعلم بعضهم صدق رسول من أرسله إليه بشر مثله ، بعلامات يأتي بها الرسول ، وإن كان لم تتقدّم مواطأة وموافقة بين المُرسِل والمرسَل إليهم . 
فمن هدى عباده إلى أن يرسلوا رسولاً بعلامةٍ ، ويعلم المرسَل إليهم أنها علامة تدل على صدقه قطعاً ، فكيف لا يقدر هو أن يرسل رسولاً ، ويجعل معه علامةً يُعرّف بها عباده أنه قد أرسله. وهذا كمن جعل غيره قديراً ، عليماً ، حكيماً ، فهو أولى أن يكون قديراً ، عليماً، حكيماً ، فمن جعل الناس يعلمون صدق رسول يرسله بعض خلقه بعلامات يعلم بها المرسَل صدق رسوله ، فمن هدى العباد إلى هذا ، فهو أقدر على أن يعلِّمهم صدق رسوله بعلامات يعرفون بها صدقه ، وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدّم بينهم وبينه مواطأة » النبوات ٢/٦٥٤

ويقول : 
« ونحن نعلم بالاضطرار ... أنه لا يبعث أنبياء صادقين يبلغون رسالته ويأمر الناس باتّباعهم ويتوعد من كذبهم ، فيقوم آخرون كذابون يدّعون مثل ذلك ، وهو يسوي بين هؤلاء وهؤلاء في جميع ما يفرّق به بين الصادق والكاذب . بل قد علمنا من سنّته أنه لا يُسوّي في دلائل الصدق والكذب بين المحدّث الصادق  ، والكاذب ، والشاهد الصادق ، والكاذب ، وبين الذي يعامل الناس بالصدق ، والكذب ، وبين الذي يظهر الإسلام صدقاً، والذي يظهره نفاقاً وكذباً، بل يميز هذا من هذا بالدلائل الكثيرة ؛ كما يميز بين العادل والظالم ، وبين الأمين والخائن ؛ فإن هذا مقتضى سنته التي لا تتبدّل ، وحكمته التي هو منزه عن نقيضها ، وعدله سبحانه بتسويته بين المتماثلات ، وتفريقه بين المختلفات . فكيف يسوّي بين أفضل الناس وأكملهم صدقاً، وبين أكذب الناس وشرّهم كذبا فيما يعود إلى فساد العالم في العقول ، والأديان ، والأبضاع ، والأموال، والدنيا والآخرة » النبوات ١/٥٢٦-٥٢٧

فمن ادّعى النبوة كذبًا هو من أجهل الناس وأكذبهم ؛ لأن دليله لا بد وأن يكون مما يقدر عليه البشر ، كمن يقول : أنا ملكُ الدولة الفلانية ودليلي أنني آكل وأشرب وأنام ، فيُقال له : إذاً جاز للكل أن يدّعي ما ادّعيته ؛ لكون الكل يأكل ويشرب وينام ، فلو كان دليلك مستلزمٌ لمدلولك لتحقق المدلول في كلِّ من تحقق فيهم دليلك ! 

فثبت عندئذٍ كذبه - بل وأحطّ درجات الكذب - ؛ لكونه ادّعى دعوى عظيمة جداً بلا دليل ، بل وتجرأ على الكذب في حقِّ خالقه ، والمتجرئ على هذا لن يترفّع عنه في حق المخلوقين . 



خامساً / وجود المخالفين : 

وجود المخالفين :

من المقدمات السابقة تبين لك أن مدعي النبوة قد ادّعى أعظم دعوى على الإطلاق ، وعظم هذه الدعوى مستلزم لعظم ما به يتميز عن مدعي النبوة كذباً - أعني الدليل - ، أيضاً تبين لك أن مدعي النبوة إن لم يأتِ بعلوم يختص بها عن كل من ليس بنبي فليس لدعواه أي معنى ، ولازم هذا الأخير : أن لا يتبعه أحدٌ إلا بعد أن يحكم على نفسه بالجهل والضلال ، وينسب إليه - أي إلى مدعي النبوة - فضل تعليمه وهدايته ، ولهذا المعنى أشار الله تبارك وتعالى : ﴿لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنينَ إِذ بَعَثَ فيهِم رَسولًا مِن أَنفُسِهِم يَتلو عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كانوا مِن قَبلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ﴾ ويقول :  ﴿هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الأُمِّيّينَ رَسولًا مِنهُم يَتلو عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كانوا مِن قَبلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ﴾ ولا يمكن لعاقلٍ أن يتبع مدعي النبوة كذباً ؛ لأن هذا إقرار منه بفضله عليه مع عدم وجود ما يتفضل به عليه ، وهذا من الكذب !

وإن شئت فقل : 
مدّعي النبوة إما أن يكون صادقاً وإما أن يكون كاذباً  ، والمخاطَبُون إما كلهم طلاب حق وإما بعضهم طلاب حق والبعض الآخر لا . 
فعلى تقدير كذب مدعي النبوة ،  والناس كلهم طلاب حق ، فالناس كلهم إذن مكذبون له غير متبعين له ، فيذيع حينئذٍ خبر كذبه ولا يخفى على العقلاء . 
وأما على تقدير  انقسام الناس بين طالبِ حقٍ  ومعرضٍ عنه ، فطلاب الحق لن يتبعوه ، وأيضاً المعرضون عنه - أي : عن الحق - لن يتبعوه لا لأن الحق في عدم اتباعه ، بل لعدم وجود الداعي لذلك ، ولأنه - أي مدعي النبوة - لا يمكن أن يرضي كآفة المعرضين عن الحق واستمالتهم إليه .
فثبت إذن أن مدعي النبوة كذباً لن يجني من دعواه إلا كل قبح يتنزه العقلاء عنه ، ويظهر هذا للناس جلياً . 
وأما على تقدير صدقه فيما ادّعاه ، فسيجد طلاب الحق ما يبرر لهم تجهيل أنفسهم ونسبة الفضل إليه ، وطاعتَه والانقياد له ، وتحكيمه وتوليته عليهم ، وكما قلنا : الناس إما أن يكونوا كلهم طلاب حق ، فيتبعه الكل حينئذٍ ، وإما أنهم بين طالب حقٍ ومعرض عنه  - وهذا هو الواقع - فيتبعه طلاب الحق ، ويكذب به المعرضون مع عجزهم عن تبرير موقفهم منه .  

ماذا نريد من هذا التقرير المختصر ؟ 
المراد هو أن تعلم أنه لا بد من وجود المخالفين لمدعي النبوة سواء كان صادقاً في ادعائه أم كاذباً ؛ فعلى تقدير صدقه فلأنه يأتي بأشياء تخالف أهواء ورغبات الناس ، وليس كل من عرف الحق اعترف به واتبعه . وأما على تقدير كذبه : فحصول مصالح الناس لا تتوقف على اتباعه ، بل في مجرد اتباعهم له اعتراف ضمني بجهلهم وجهل آبائهم وضلالهم ، ولا يمكن لعاقل أن يرضى بهذا على نفسه بسبب مدعٍ للنبوة كاذب ! 


وختاماً تبين لك أن مدّعي النبوة قد ادّعى دعوى عظيمةً تتضمن علوماً اختص بها عن غيره ، لا يُسلَّم له بها حتى يقيم من الأدلة ما يُخضع طلاب الحق ويُبطل أصول المخالفين ويسحقها ، وأنّى للكاذب إن سَهُلتْ عليه الدعوى أن  يجوزَ حواجزَ لا يتجاوزها إلا الصادق دون مَن سواه ، فإن تشبّث بدعواه فهو في الحقيقة يؤكد كذبه في كل يومٍ تستطع فيه شمسٌ لا مفر له من ضوئها !


 هذا وصلى اللهم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين

أرحب بتعليقاتكم وملاحظاتكم على صفحتي في تويتر :
https://twitter.com/moh_jazi?s=09
أو تيليجرام :
https://t.me/llllll91

•••═══ ༻✿༺═══ •••

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق