الأحد، 27 يناير 2019

مركزية الإيمان باليوم الآخر في إثبات النبوات [ إلماحة ]

  • الكاتب
    المُهَنَّد
  • تاريخ النشر
    يناير 27, 2019
  • الأقسام



   ضرورة الحساب :

دل العقل على اتّصاف الخالق بالكمال المطلق ومن ذلك الكمال : صفة العلم والحكمة والعدل  ، فهو جل جلاله لا يخفى عليه ما يفعله الإنسان بمقتضى إرادته واختياره التي وهبها اللهُ إياه  ، وإرادة الإنسان واختياره تقتضي تنوّع أفعاله بين الخيرِ والشرِ ، والله تعالى يجازيه عليها ؛ لأن العدل الحكيم لا يمكن أن يساوي بين الأخيار والأشرار ، والأبرار والفجّار في المآل لكون ذلك من الظلم الذي ينزه الخالق عنه.
وتمام الجزاء لم يحصل في الدنيا ، بل قد يحضى بعض الأشرار بما يفوق غيرهم من حظوظها  ، فعُلِمَ أن الجزاء التام حاصل في دارٍ أخرى فيها يكافئ المُحسن ويُعاقب المسيء .
ومقدمات هذا الدليل هي :
١ / الخالق متصف بالكمال المطلق .
٢/ كماله يقتضي مجازاته للأخيار والأشرار بما يستحقونه.
٣/ تمام المجازاة لم يحصل في الدنيا .
إذاً لا بد من وجود دارٍ أُخرى يتحقق فيها تمام العدل الإلهي .

يقول شيخ الإسلام  : «والكلام في النبوة فرعٌ على إثبات الحكمة التي يوجب فعل ما تقتضيه الحكمة ، ويمتنع فعل ما تنفيه ، فتقول : هو سبحانه وتعالى حكيم ، يضع كل شيء في موضعه المناسب له ، فلا يجوز عليه أن يسوّي بين جنس الصادق والكاذب ، والعادل والظالم ، والعالم والجاهل، والمصلح والمفسد ، بل يفرِّق بين هذه الأنواع بما يُناسب الصادق العادل العالم المصلح من الكرامة ، وما يناسب الكاذب الظالم الجاهل المفسد من الهوان ؛ كما قال تعالى : ﴿ أَم نَجعَلُ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالمُفسِدينَ فِي الأَرضِ أَم نَجعَلُ المُتَّقينَ كَالفُجّارِ ﴾ وهذا استفهام إنكار على من ظن ذلك ... »

    إقامة الحجة على خلقه :

علمتَ أن الله تعالى مجازٍ عباده على أعمالهم المتأرجحة بين الخير والشر ، فكان من كمال عدله ورحمته بهم  أن يعرِّف الإنسان ما له وما عليه بشكلٍ واضح لا لبس فيه ، فإرسالُ الله للرسل هو من تمام عدله كما قال تعالى ﴿ رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ ﴾  بُشارة للأخيار ونذارة وللإشرار .
وعمدة هذا قصور عقل الإنسان وتأثره بالمؤثرات ، فعقل الإنسان قاصر عن إدراك كثيرٍ مما يُصلح دنياه فضلاً عن أخراه ؛ حيث أنّك تجده يقبّح أمورًا كان يظنها بالأمس طريقاً موصلاً إلى ما ينفعه ، فكيف به إذا أقحم عقلَه فيما ليس من نطاقه ؟!
بل إذا علم الإنسان أن هناك حياة أخرى يُجازى فيها الأخيار والأشرار بما يستحقانه ، فإنّ تطلّب ما يحقق حسن الجزاء أولى من كلِّ شيء على الإطلاق ؛ إذ رضا الله وحسن ثوابه مقدّم على كل ما يخطر في قلب الإنسان من الملذات الزائلة ، وما يحقق ذلك الفلاح – أعني : فلاح المعاد – إنما هي جملة من الاعتقادات والأعمال من وافقها وامتثلها كان من الأخيار ، ومن خالفها وأعرض عنها كان من الأشرار ، وكما أن الإنسان قاصر بنفسه عن إدراكها  ، فإن المكابرة في ذلك والاحتكام إلى الناقص يؤول إلى اختلاف الناس ، وبالتالي يزعم كلٌ منهم أن ما لديه هو المنجي وما لدى الآخر هو المُهلك ؛ ولا يصلح أن يكون كلاهما منجٍ لكون ذلك مستلزمٌ للجمع بين النقيضين ، والجمع بينهما مُحال !

فكان من رحمة الله تعالى وعدله أن يرسل للناس ما يبين فلاح أخراهم ليمتثلوه ويجتنبوا غيره ، ويقطع النزاع بين الناس  ويحقن دماءهم ؛ إذ لو تُرِكَ الأمر للناس مع اختلافهم لظلم بعضهم بعضاً وتقاتلوا ؛ حيث ما يدعون إليه انبثق عن عقولهم القاصرة وعاداتهم وتقاليدهم وأهوائهم ورغباتهم ، ولازم هذا اضطرابهم واختلافهم ، وكلٌ منهم مع ذلك يزعم أن من امتثلها حُقّ له الجزاء الحسن  وبالتالي سيبذل كل السبل المفضية إلى إخضاع الناس لمعتقداته وأعماله حتى لو تطلب الأمر قتل المجاهرين بضد قوله ؛ لأن الجهر بالضد يحول بين المدعوين وفلاح الدار الآخرة اللازم لما يدعو إليه – كما زعم كلٌ منهم - !
-    فإن قيل : ألستم تزعمون أن النبوات قد تحققت في الواقع ؟ كيف إذًا تدّعون أن النبوة عاصمة من هذا مع أن الناس مختلفين متناحرين  ؟!
قيل : ليس المقصود من هذا أن الاختلاف والتناحر لا يقع ؛ وإنّما المقصود أن النبوة تقطع النزاع بين المختلفين إن احتكموا إليها ، ففرقٌ بين وجود المعيار وبين التسليم له والاحتكام إليه ، فلا يلزم من معرفة الإنسان بالحق اتّباعه والانقياد إليه .

    النبوة طريق مأمون .
قد علمت ضرورة الجزاء ، وأن المُجازين إما أخيارٌ وإما أشرار، إما أبرار وإما فجّار .. ولابد من وجود معيارٍ تفصيلي يقتضي الحكم على من وافقه بالخير والجزاء الحسن ، وعلى من خالفه بالشر واستحقاق العقاب ، وهو ما يسمّى بجملة المعتقدات والأعمال ، وتلك المعتقدات والأعمال لا يمكن أن تُترك للناس لقصور عقولهم وتأثرهم (بالمؤثرات الداخلية ( كالشهوات والرغبات ) والخارجية ( كالعادات والتقاليد ودين الآباء ، وما يستلزم ذلك من الاختلاف والتنافر ثم القتال والتناحر) والتحاكم إما أن يعود إلى الإنسان نفسه وهو عودٌ إلى منشأ تلك الاختلافات أو مصدرٍ آخر متعالٍ عن قصور عقولهم وشهواتهم ورغباتهم وما ألفوه مما هو ذائع بينهم .
ولا شك أن الأسلم هو الثاني ؛ إذ الإنسان ليس بمعصومٍ عن الزلل في أمور دنياه ، ومن كان حاله  كذلك فحريٌ به أن يجانب الصواب في الأمور الإلهية والعملية ، والعاقلُ الفَطِن لا يهنأ له بالٌ ويطمئن حتى يعلم أن تلك المعتقدات والأعمال مقتضية للفلاح الأخروي ، كيف لا وقد عَلِمَ زلل الخلق فيما دونهما  ؟! وحيث كان الأمر كذلك فاطمئنانه وهناء باله لن يكون إلا باللجوء إلى وحي سماوي ؛ ينزله من هو عليمٌ بكل شيء ، نافذٌ أمره على كل شيء .
ولا يمكن للصادق في طلب ذلك أن يشترط وسيلةً معينة بحيث يرفض كلَّ معرفةٍ جاءته عن غيرها ، ومثال ذلك أن ينكر النبوات ويكذب الأنبياء بحجة أن هناك طرقًا أخرى هي أفضل من إرسال الرسل وبعث الأنبياء ، فهذا في الحقيقة نصّب نفسه حاكمًا على أفعال من أعطاه الحكمة ، وهذا في غاية التناقض !
فالنبوة مقدورةٌ لله تعالى ، والجهل بحكمة كون المرسل بشراً لا يعني عدم الحكمة ، فكان الصحيح أن ننظر في الواقع ونتساءل هل تحققت النبوة أم لا ؟ ؛ إذ العقل لا يحكم بنفيها ولا إثباتها ما دامت مقدورةٌ للهِ تعالى ولا تعارض بين حقيقتها وصفات كماله .

•••═══ ༻✿༺═══ •••






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق