الأحد، 5 نوفمبر 2017

حينَ يبحثُ الربُوبي عَن ملجأ !

  • الكاتب
    المُهَنَّد
  • تاريخ النشر
    نوفمبر 05, 2017
  • الأقسام

 
سؤال وردني من ربوبي أنقله لكم : 
الخالق لم يرسل رسولاً ؛ وذلك لأن بعض الناس لم يصل إليه رسول وهم أهل الفترة، فإذا كان أهل الفترة لم يصل إليهم رسول (استثناءً) فكذلك يمكن القول: أن البشرية كلها لم يصل إليها رسول أيضا استثناءً من مخلوقات عديدة وكثيرة هداها الخالق وأما البشرية فهم قلة من مخلوقات كثيرة لم تصلها الهداية وبذلك قد يقال أن البشرية لم يرسل إليهم رسول .

الرد /  هذا الكلام يتضمن مغالطاتٍ عدة  ، سنستعرض بعضها  :
أولاً / هو لم يأتِ بدليل أصلاً ؛ إذ ما علاقة عدم علمه بامتناع قوله ( أي : إمكانه في الذهن ) بالإمكان الخارجي  ؟! 
فمما هو معلوم أن الإمكان الذهني لا يعني إمكان الوقوع في الخارج ،فـ "الإنسان يقدّر في نفسه أشياء  كثيرة يجوزها ، ولا يعلم أنها ممتنعة ، ومع هذا فهي ممتنعة في الخارج لأمور أُخر  " ¹ ، والاحتكام إلى عدم علمه بالامتناع لإثبات إمكانها في الخارج احتكامٌ إلى الجهل لا إلى العلم بإمكانها . 
 
فالاستناد على مجرد الإمكان الذهني - الذي هو عدم العلم بالامتناع - هو استنادٌ إلى الجهل بعدم الامتناع ، خصوصاً وأن العقل يجوّز وقوعها - أي النبوة - بالنظر إلى قدرة الله تعالى  ، بل نقيض قوله - لم يرسل رسولاً -  هو الواقع وما عليه إلا أن ينظر في دلائل من ادّعى النبوة أهو صادقٌ أم كاذب  ولا يلتبس حال المدعي إلا على أجهل الناس لعِظم الفرق والتنافر بينهما . 

ثانياً / من الأخطاء أيضاً في ترتيب دليله كون أحد مقدماته إن قصد بها الكلية -أي الحكم على كآفة جزئيات الموضوع – فهي كاذبة  ، وإن جعلها جزئية لم تكن النتيجة صحيحة ، ففي كلا الحالين استدلاله باطل وإليك بيان ذلك   :
المقدمة الأولى : الرسالة لم تصل إلى أهل الفترة .
المقدمة الثانية : كل ما لم يصل إلى بعض الناس فهو لم يصل إلى الكل .
النتيجة : الرسالة لم تصل إلى الكل .

فالمقدمة الأولى صحيحة ، لكن الكاذبة هي المقدمةُ الثانية ؛ حيث لا يلزم من عدم وصول الشيء إلى البعض عدم وصوله إلى الكل ،  فلا أحد يقول : بما أن نقص الطعام حاصلٌ في بعض البلدان الأفريقية إذاً كل بلاد العالم يعانون من نقص الطعام ! 
أو بما أن بعض الناس لم يصل إليهم الكهرب  إذاً لم يصل الكهربُ إلى الكل  !

أما إن جعل المقدمة الثانية جزئية  أي : بعض ما لم يصل إلى بعض الناس لم يصل إلى الكل  ، كان الحكم على بعض أفراد ما لم يصل إلى بعض الناس لا الكل ، مما يعني عدم استلزام المقدمات للنتيجة  بل هي لا تنتج لكونها من الشكل الأول ، وشرط إنتاج الشكل الأول كون الكبرى كلية أي يعم الحكم فيها كل أفرادها !
فتبين أن مقدمته إما كاذبة وإما أن النتيجة ليست بلازمة إن صدقتا  ، وبهذا بَطُل استدلاله  .

ثالثاً / الربوبي في اعتراضه هذا هو بين أمرين : إما أن يصحح قولنا أو يسلب الثقة من حكمه ، فإبطال قولنا يوقعه في التناقض ، كما أن الثقة في حكمه على تقدير نسبة النقص إلى الخالق يُفضي إلى التناقض وإليك التفصيل 

هو إما أن يثبت للبارئ سبحانه العدل والحكمة والرحمة وأنه ذو الفضل المجيد  وإما أن ينفيها عنه ،  
 لازم إنكاره عدل الخالق ورحمته هو نزع الثقة في الأحكام العقلية ، فعلى أي أساسٍ يفترض الربوبي (صحةَ) أحكامه  ، وخالق العقلِ - في نظره - لا يتصف بالعدل والرحمة ؟! وبعبارة أخرى : كيف ينفي خداعه لنا في ظل التشكيك في عدله أو رحمته أو إثبات رحمته وعدله مع نفي العلم بمقتضاهما ؟! 
وأقصد بأحكامه العقلية تلك الضروريات الكلية التي هي مبدأ كل استدلال   ، فلا يمكن إقناع غيره بصحتها في ظل انعدام الأساس المتين ، وما محاولته لتغيير القناعات إلا اعتراف بفساد هذا الذي يدل على فساد ملزومه وهو نفي الرحمة والعدل أو افتراض الجهل بمقتضاها البيّن.
فإذا عَلمتَ هذا فاعلم أنه إن أقر بعدل الخالق ورحمته لزمه أن يقول: أن تلك الاسباب التي جعلتنا نثق بأحكامنا العقلية ليست إلا مظهراً من مظاهر كرمه وفضله وجوده ؛ إذ لا يجب عليه شيء بمعنى أنه لا يقدر على خلافه أو يترتب على عدم حصوله مضرةٍ أو منفعة أو محال  ، بل هو غني عن العالمين !
ولو قُدِّر وجود من ينازع في ذلك -أي صحة تلك الأسباب المؤدية إلى علم صحيح  - محتجاً بوجود البُلَّه والمجانين لما أمكنه أن يُبطِل اعتراضه إلا بثلاثة أركان أساسية إن تخلّف أحدها لُجِمَ واضطرب :
الركن الأول / أن مُوجِده متصفٌ بالحكمة والقدرة  والرحمةِ والعدل والكرم والجود إلى غيرها من صفات الكمال وأن هذه الصفات له مقتضياتٍ معلومةٌ بالنسبة لنا ، وهذا أس الثقة في تلك الأحكام العقلية، ووجوب أن تكون صحيحة  وكل ما استند عليها أيضاً صحيح.
الركن الثاني : أنها منةٌ وفضلٌ وجود منه اقتضتها حكمته ، وتخلفها عن البعض ما هو إلا لحكمةٍ اقتضت ذلك  .
الركن الثالث : أن وجود البلَّه والمجانين ليس حجةً في التشكيك بصحة الأحكام العقلية الضرورية  ؛ إذ جهلنا بحكمة وجودهم لا يستلزم عدم الحكمة ، ووجودهم لا ينافي رحمة الخالق وعدله ؛ لأنه لا يحاسبهم على ما توصلوا إليه من أحكامٍ تُخالف ما توصل إليه الأصحاء .

فإن تخلّف الأول لزمه عدم الثقة بكل أحكامه - منها شُبهته – سواءً أكان ذلك من جهة تجويز وصفه بالنقص أو إثبات صفات الكمال مع إنكار العلم بمقتضياتها من الأفعال ، أما إن تخلّف الثاني دون الأول لزمه نسبة النقصِ إلى الخالق تعالى  لكونه أوجب عليه فعلاً يترتب على عدم فعله نقص أو محال ، وتجويز النقص عليه – كما أنه مخالف لما ثبت عقلاً من وجوب الكمال له من كل وجه ، فإنه يعود على أحكامه العقلية بالطعن لجواز اتصافه بنقيض العدل والرحمة – أما إن تخلّف الثالث فهي مكابرة لما عُلِمَ حساً  !


إذاً هو بين خيارين أحلاهما مر  :

الأول / الإقرار بكماله وأنه حكيم في كل أفعاله ولا يجب عليه شيء إلا ما أوجبه هو على نفسه تفضلاً ورحمة بخلقه ، وهذا هو عين جوابنا على شبهته   ؛ إذ الوحي علم يتفضل به على عباده كما تفضل عليهم بالضروريات العقلية والحسية  التي هي محل التكليف والتمييز عن كآفة المخلوقات  ، ويُقال في تخلِّف الوحي عن بعض الناس ما يُقال في تخلّف تلك الضروريات عن بعضهم  .
فثقته بأحكامه العقلية وجوابه على من شكك بها  تقتضي تصحيح جوابنا عليه  ؛ لأنهما يشتركان في الأركان الأساسية  وإلا فقد وقع في التناقض والتفرقة بين المتماثلات !

الثاني : إن حجد أحد تلك الأركان لزمه إما سلب الثقة عن أحكامه العقلية كلها لعدم وجود المستند ، أو مناقضة الحس .

أما إن قال : وجود تلك الضروريات يجده الإنسان في نفسه لا  يستطيع دفعه بينما وجود الأنبياء منقول لنا لا يمكننا التحقق من صحته أو عدمه ، وبالتالي لا مقارنة بين هذا وهذا .
قلت : ليس المقصود الآن إثبات وجود الأنبياء  ، وإنما المقصود بيان وقوعك في التناقض إن اعترض عليك أحدٌ بمثل ما اعترضت به علينا – كما هو قول بعض الحسيين -

أما ادعاؤك بأن المنقول من الأخبار لا يمكن التأكد من صدقه أو كذبه ، فإن هذا مخالف لما يجده الإنسانُ ضرورةً في نفسه من الحكم على بعض المنقول بالصدق أو الكذب ؛ إذ الإنسان لا بد وأن يُرجّح أحد طرفي الصدق والكذب في كثيرٍ من الأمور التي لم تباشرها حواسُه ، وما عَلِمه بالمشاهدة عُلِمَ بالمشاهدة  ، وما غاب عنه عَلِمَه بالخبر .
وليس هذا موطن التفصيل في دحض هذه الدعوى


فالخُلاصة : مستنده في إنكار جنس النبوات ليس إلا الجهل بمقتضيات العقل أو ما أفاده الواقع أو تجاهلهما عمداً ، وليس له ليبرهن على حكمه إلا الاستقراء التام  وأنّى له حينها أن ينفيها  !!

......................................................................... 
1/ ابن تيمية ، درء تعارض العقل والنقل ٣/٣٥٨ عن كتاب النبوات ٢/٨٧٢ ت: عبدالعزيز الطويان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق